تــقـــديـــم:
يشتكي كثير من النقاد في عصرنا الحالي من تحويل الشعر إلى مجموعة من الأحاجي والألغاز بفعل الانحياز الكلي من قبل الشعراء العرب المحدثين إلي الانغماس غير الواعي في الأساطير، مما أحال شعرهم إلى حزمة من الأفكار غير المفهومة وغير المهضومة، فانعدم وسطهم الشعراء على النمط الذي اعتاد عليه متذوقو الشعر وقراؤه، وانعدم وسطهم أيضا الشعراء أصحاب القضية وأصحاب الأفكار الكبيرة النابعة من مجتمعاتهم، وأصحاب الفكرة المشرقة التي لا تحتاج وسيطا للتقرب منها والتفاعل معها، وأصحاب التأملات المتعمقة في واقع الأمم.
ومع ذلك لم ييأس محبو الشعر وعشاقه، رغم تواصل الدياجر، من أن يظهر بين الفينة والفينة شعراء أو شاعر من النوع الذي كاد ينقرض،ذلك النوع الذي يكرس حياة شعره من أجل قضية يؤمن بها، وتؤمن به، يتشرَّبها وتتشرَّبه، يعيش بها وتعيش به، يفنى فيها وتفنى فيه، تصير بحول الله وقدرته شغله الشاغل، فيجعلها حبيبته التي يرمز لها ويرمز بها، وموطنه الذي يديم
التغني له وبه، بل حياته التي يحاول أن يستمد منها وجوده وأمنه واستقراره، ويمنح الآخرين من نورها السرمدي.
... وديوان ملحمة جنين للشاعر/عبدالرحمن هارون عبدالرحمن، الذي بين يديك عزيزي القارئ، يذكرنا بزمن الشعر الجميل الراقي، ويذكرنا أيضا بذلك الشاعر/ القضية الذي لم يشغله شاغل عن أمته، وعن التأمل في واقعها، فلم ينبهر كما إنبهر الآخرون بغير قضايا الأمة كبيرها وصغيرها، لم تنحنِ هامته كما إنحنت هامات كُثُر بفعل التغريب والعولمة ... فكانت تأملاته عبر هذا الديوان تأملات فلسفية عميقة بعيدة الغور، تريك سعة قلب الشاعر ونقاء ضميره وصفاء سريرته وانفعاله المتواصل المستمر مع قضايا أمته. فنجد ذكرا متواصلا للقضية الفلسطينية، قضية كل مسلم.
وقضية الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل بعض الدول الأوربية قضية كل مسلم أيضا،وقضية سوريا في صراعها مع الدول العظمى قضية كل مسلم أيضا، وغيرها من القضايا الملحة في بلدان الأمة الإسلامية.
ومن خلال تناول الشاعر لتلك القضايا يتحسر على واقع امة الإسلام،ويبكي على ضياع تماسكها، ويتلمس بين ذلك شخصية البطل العربي القائد الملهم المفقود بين الوجوه عله يجدها. ولا يكتفي بذلك بل يقارن بين تخلف العرب المسلمين وبين دول أخرى كاسبانيا وإسرائيل على مستوى الدخل القومي والإنفاق على البحث العلمي ويخرج من خلال ذلك إلى نتيجة تقود بسهولة ويسر إلى عكس المستوى التقهقري الذي وصل إليه العرب المسلمون.
والحق أن الشاعر في بعض الأحايين يميل إلى الرمز لإيصال بعض الأفكار المحددة، وهو يعتقد بذلك أن الرمز اقرب طريق لإيصال ما يريد إيصاله ، وفي خضم ذلك يبحث عن حاتم الطائي الذي يناسب هذا العصر. ويذكر في غير ما مرة بان الناس في زماننا هذا تحول كل واحد منهم إلى أشعب، وغير ذلك من استلهام أحداث وشخصيات التاريخ.
إن هذا الديوان، برغم ما فيه من إشكال في العروض أحيانا، جدير بالإطلاع لما فيه من أفكار جديدة جيدة، وعناية موفقة في اختيار العناوين، ولما فيه من عرض محبَّب تغلب عليه النظرة التشاؤمية الحزينة المحبطة، وهي نبرة لا شك تألفها نفس القارئ على أيامنا هذي.
الدكتور كمال محمد جاه الله
أستاذ العروض بجامعة إفريقيا العالمية
الخرطوم – السودان
.................................
ـ نُشرت هذه الدراسة فى موقع دنيا الرأى رابط :